الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة: قال رحمه الله:ونقف وقفة قصيرة في هذا الموضع عند قوله تعالى بعد تقرير أن سبب النقمة هو الإيمان بالله: {وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل} أن بقية السبب وأن أكثركم فاسقون فهذا الفسق هو شطر الباعث فالفسق يحمل صاحبه على النقمة من المستقيم وهي قاعدة نفسية واقعية؛ تثبتها هذه اللفتة القرآنية العجيبة إن الذي يفسق عن الطريق وينحرف لا يطيق أن يرى المستقيم على النهج الملتزم إن وجوده يشعره دائما بفسقه وانحرافه إنه يتمثل له شاهدا قائما على فسقه هو وانحرافه ومن ثم يكرهه وينقم عليه يكره استقامته وينقم منه التزامه؛ ويسعى جاهدا لجره إلى طريقه؛ أو للقضاء عليه إذا استعصى قياده إنها قاعدة مطردة تتجاوز موقف أهل الكتاب من الجماعة المسلمة في المدينة إلى موقف أهل الكتاب عامة من المسلمين عامة إلى موقف كل فاسق منحرف من كل عصبة ملتزمة مستقيمة والحرب المشبوبة دائما على الخيرين في مجتمع الأشرار وعلى المستقيمين في مجتمع الفاسقين وعلى الملتزمين في مجتمع المنحرفين هذه الحرب أمر طبيعي يستند إلى هذه القاعدة التي يصورها النص القرآني العجيب ولقد علم الله سبحانه أن الخير لابد أن يلقى النقمة من الشر وأن الحق لابد أن يواجه العداء من الباطل وأن الاستقامة لابد أن تثير غيظ الفساق وأن الالتزام لابد أن يجر حقد المنحرفين وعلم الله سبحانه أن لابد للخير والحق والاستقامة والالتزام أن تدفع عن نفسها وأن تخوض المعركة الحتمية مع الشر والباطل والفسق والانحراف وأنها معركة لا خيار فيها ولا يملك الحق ألا يخوضها في وجه الباطل لأن الباطل سيهاجمه ولا يملك الخير أن يتجنبها لأن الشر لابد سيحاول سحقه وغفلة أي غفلة أن يظن أصحاب الحق والخير والاستقامة والالتزام أنهم متروكون من الباطل والشر والفسق والانحراف؛ وأنهم يملكون تجنب المعركة؛ وأنه يمكن أن تقوم هناك مصالحة أو مهادنة وخير لهم أن يستعدوا للمعركة المحتومة بالوعي والعدة؛ من أن يستسلموا للوهم والخديعة وهم يومئذ مأكولون مأكولون ثم نمضي مع السياق القرآني في توجيه الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم لمواجهة أهل الكتاب بعد تقرير بواعثهم واستنكار هذه البواعث في النقمة على المسلمين فإذا هو يجبههم بتاريخ لهم قديم وشأن لهم مع ربهم وعقاب أليم قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل وهنا تطالعنا سحنة يهود وتاريخ يهود إنهم هم الذين لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير إنهم هم الذين عبدوا الطاغوت وقصة لعنة الله لهم وغضبه عليهم واردة في مواضع شتى من القرآن الكريم؛ وكذلك قصة جعله منهم القردة والخنازير فأما قضية عبادتهم للطاغوت فتحتاج إلى بيان هنا لأنها لفتة ذات دلالة خاصة في سياق هذه السورة إن الطاغوت هو كل سلطان لا يستمد من سلطان الله وكل حكم لا يقوم على شريعة الله وكل عدوان يتجاوز الحق والعدوان على سلطان الله وألوهيته وحاكميته هو أشنع العدوان وأشده طغيانا وأدخله في معنى الطاغوت لفظا ومعنى وأهل الكتاب لم يعبدوا الأحبار والرهبان؛ ولكن اتبعوا شرعهم وتركوا شريعة الله فسماهم الله عبادا لهم؛ وسماهم مشركين وهذه اللفتة هنا ملحوظ فيها ذلك المعنى الدقيق فهم عبدوا الطاغوت أي السلطات الطاغية المتجاوزة لحقها وهم لم يعبدوها بمعنى السجود لها والركوع ولكنهم عبدوها بمعنى الاتباع والطاعة وهي عبادة تخرج صاحبها من عبادة الله ومن دين الله والله سبحانه يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم لمجابهة أهل الكتاب بهذا التاريخ وبذلك الجزاء الذي استحقوه من الله على هذا التاريخ كأنما هم جيل واحد بما أنهم جبلة واحدة يوجهه ليقول لهم إن هذا شر عاقبة قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله أي شر من نقمة أهل الكتاب على المسلمين وما يكيدون لهم وما يؤذونهم بسبب إيمانهم وأين نقمة البشر الضعاف من نقمة الله وعذابه وحكمه على أهل الكتاب بالشر والضلال عن سواء السبيل أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل الدرس الخامس نماذج من كفريات وتلاعب اليهود ويمضي السياق في التنفير من موالاتهم بعرض صفاتهم وسماتهم بعد عرض تاريخهم وجزائهم ويجيء التحذير والتوعي ة منهم بكشف ما يبيتون ويبرز اليهود كذلك في الصورة لأن الحديث عن وقائع جارية ومعظم الشر كان يجيء من قبل يهود وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا؛ بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين إنها عبارات تنشى ء صورا متحركة مشاهد حية على طريقة التعبير القرآنية الفريدة ومن وراء القرون يملك قارى ء هذه الآيات أن يشهد بعين التصور هؤلاء القوم الذين يتحدث عنهم القرآن من يهود على الأرجح فالسياق يتحدث عنهم وإن كان من الجائز أنه يعني كذلك بعض المنافقين في المدينة يشهدهم يجيئون للمسلمين فيقولون آمنا ويشهد في جعبتهم الكفر وهم يدخلون به ويخرجون؛ بينما ألسنتهم تقول غير ما في الجعبة من كفر يحملونه داخلين خارجين ولعلهم من يهود أولئك الذين كانوا يبيتون البلبلة وهم يقولون بعضهم لبعض آمنوا بهذا القرآن وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون أي لعل المسلمين يرجعون عن دينهم بسبب هذه البلبلة والتشكيك الخبيث اللئيم والله أعلم بما كانوا يكتمون يقولها الله سبحانه لأنها الحقيقة؛ ثم لكي يطمئن المؤمنون إلى كلاءة ربهم لهم وحفظهم من كيد عدوهم؛ وإحاطته علما بهذا الكيد المكتوم ثم ليهدد أصحاب هذا الكيد لعلهم ينتهون ويمضي السياق يرسم حركاتهم كأنها منظورة تشهد وتلحظ من خلال التعبير وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون والمسارعة مفاعلة تصور القوم كأنما يتسابقون تسابقا في الإثم والعدوان وأكل الحرام وهي صورة ترسم للتبشيع والتشنيع ولكنها تصور حالة من حالات النفوس والجماعات حين يستشري فيها الفساد؛ وتسقط القيم؛ ويسيطر الشر وإن الإنسان لينظر إلى المجتمعات التي انتهت إلى مثل هذه الحال فيرى كأنما كل من فيها يتسابقون إلى الشر إلى الإثم والعدوان قويهم وضعيفهم سواء فالإثم والعدوان في المجتمعات الهابطة الفاسدة لا يقتصران على الأقوياء؛ بل يرتكبهما كذلك الضعفاء فحتى هؤلاء ينساقون في تيار الإثم وحتى هؤلاء يملكون الاعتداء؛ إنهم لا يملكون الاعتداء على الأقوياء طبعا ولكن يعتدي بعضهم على بعض ويعتدون على حرمات الله لأنها هي التي تكون في المجتمعات الفاسدة الحمى المستباح الذي لا حارس له من حاكم ولا محكوم؛ فالإثم والعدوان طابع المجتمع حين يفسد؛ والمسارعة فيهما عمل هذه المجتمعات وكذلك كان مجتمع يهود في تلك الأيام وكذلك أكلهم للحرام فأكل الحرام كذلك سمة يهود في كل آن لبئس ما كانوا يعملون ويشير السياق إلى سمة أخرى من سمات المجتمعات الفاسدة؛ وهو يستنكر سكوت الربانيين القائمين على الشريعة والأحبار القائمين على أمر العلم الديني سكوتهم على مسارعة القوم في الإثم والعدوان وأكل السحت؛ وعدم نهيهم عن هذا الشر الذي يتسابقون فيه لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون فهذه السمة سمة سكوت القائمين على أمر الشريعة والعلم الديني عما يقع في المجتمع من إثم وعدوان هي سمة المجتمعات التي فسدت وآذنت بالانهيار وبنو إسرائيل كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه كما حكى عنهم القرآن الكريم إن سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وأن يكون عرف المجتمع من القوة بحيث لا يجرؤ المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر وهكذا وصف الله الأمة المسلمة فقال كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ووصف بني إسرائيل فقال كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه فكان ذلك فيصلا بين المجتمعين وبين الجماعتين أما هنا فينحي باللائمة على الربانيين والأحبار الساكتين على المسارعة في الإثم والعدوان وأكل السحت؛ الذين لا يقومون بحق ما استحفظوا عليه من كتاب الله وإنه لصوت النذير لكل أهل دين فصلاح المجتمع أو فساده رهن بقيام الحفظة على الشريعة والعلم فيه بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ والأمر كما قلنا من قبل في الظلال يقتضي سلطة تأمر وتنهى والأمر والنهي أمر غير الدعوة فالدعوة بيان والأمر والنهي سلطان وكذلك ينبغي أن يحصل الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر على السلطان الذي يجعل لأمرهم ونهيهم قيمته في المجتمع؛ فلا يكون مطلق كلام وكنموذج من قولهم الإثم في أبشع صوره يحكي القرآن الكريم قول اليهود الغبي اللئيم وقالت اليهود يد الله مغلوله غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وذلك من سوء تصور يهود لله سبحانه فقد حكى القرآن الكريم الكثير من سوء تصورهم ذاك وقد قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء عندما سئلوا النفقة وقالوا يد الله مغلولة يعللون بذلك بخلهم؛ فالله بزعمهم لا يعطي الناس ولا يعطيهم إلا القليل فكيف ينفقون وقد بلغ من غلظ حسهم وجلافة قلوبهم ألا يعبروا عن المعنى الفاسد الكاذب الذي أرادوه وهو البخل بلفظه المباشر؛ فاختاروا لفظا أشد وقاحة وتهجما وكفرا فقالوا يد الله مغلولة ويجيء الرد عليهم بإحقاق هذه الصفة عليهم ولعنهم وطردهم من رحمة الله جزاء على قولهم غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا وكذلك كانوا فهم أبخل خلق الله بمال ثم يصحح هذا التصور الفاسد السقيم؛ ويصف الله سبحانه بوصفه الكريم وهو يفيض على عباده من فضله بلا حساب بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وعطاياه التي لا تكف ولا تنفد لكل مخلوق ظاهرة للعيان شاهدة باليد المبسوطة والفضل الغامر والعطاء الجزيل ناطقة بكل لسان ولكن يهود لا تراها؛ لأنها مشغولة عنها باللم والضم وبالكنود وبالجحود وبالبذاءة حتى في حق الله ويحدث الله رسوله صلى الله عليه وسلم عما سيبدو من القوم وعما سيحل بهم بسبب حقدهم وغيظهم من اصطفاء الله له بالرسالة؛ وبسبب ما تكشفه هذه الرسالة من أمرهم في القديم والحديث وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرًا فبسبب من الحقد والحسد وبسبب من افتضاح أمرهم فيما أنزل الله إلى رسوله سيزيد الكثيرون منهم طغيانا وكفرا لأنهم وقد أبوا الإيمان لابد أن يشتطوا في الجانب المقابل؛ ولابد أن يزيدوا تبجحا ونكرا وطغيانا وكفرا فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين ووبالا عن المنكرين ثم يحدثه عما قدر الله لهم من التعادي والتباغض فيما بينهم؛ ومن إبطال كيدهم وهو في أشد سعيره تلهبا؛ ومن عودتهم بالخيبة فيما يشنونه من حرب على الجماعة المسلمة وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفاها الله وما تزال طوائف اليهود متعادية وإن بدا في هذه الفترة أن اليهودية العالمية تتساند؛ وتوقد نار الحرب على البلاد الإسلامية وتفلح ولكن ينبغي ألا ننظر إلى فترة قصيرة من الزمان ولا إلى مظهر لا يشتمل على الحقيقة كاملة ففي خلال ألف وثلاثمائة عام بل من قبل الإسلام واليهود في شحناء وفي ذل كذلك وتشرد ومصيرهم إلى مثل ما كانوا فيه مهما تقم حولهم الأسناد ولكن مفتاح الموقف كله في وجود العصبة المؤمنة التي يتحقق لها وعد الله فأين هي العصبة المؤمنة اليوم التي تتلقى وعد الله وتقف ستارا لقدر الله ويحقق الله بها في الأرض ما يشاء ويوم تفيء الأمة المسلمة إلى الإسلام تؤمن به على حقيقته؛ وتقيم حياتها كلها على منهجه وشريعته يومئذ يحق وعد الله على شر خلق الله واليهود يعرفون هذا ومن ثم يسلطون كل ما في جعبتهم من شر وكيد؛ ويصبون كل ما في أيديهم من بطش وفتك على طلائع البعث الإسلامي في كل شبر من الأرض ويضربون لا بأيديهم ولكن بأيدي عملائهم ضربات وحشية منكرة؛ لا ترعى في العصبة المؤمنة إلا ولا ذمة ولكن الله غالب على أمره ووعد الله لابد أن يتحقق وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله إن هذا الشر والفساد الذي تمثله يهود لابد أن يبعث الله عليه من يوقفه ويحطمه؛ فالله لا يحب الفساد في الأرض؛ وما لا يحبه الله لابد أن يبعث عليه من عباده من يزيله ويعفي عليه ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين الدرس السادس أثر الإيمان وتطبيق شرع الله في الرخاء المعيشي وفي نهاية الدرس تجيء القاعدة الإيمانية الكبرى قاعدة أن إقامة دين الله في الأرض معناها الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء لا افتراق بين دين ودنيا ولا افتراق بين دنيا وآخرة فهو منهج واحد للدنيا وللآخرة؛ للدنيا وللدين تجيء هذه القاعدة الإيمانية الكبيرة بمناسبة الحديث عن انحراف أهل الكتاب عن دين الله؛ وأكلهم السحت؛ وتحريفهم الكلم من بعد مواضعه لينالوا عرضا من أعراض هذه الأرض واتباع دين الله كان أجدى عليهم في الأرض والسماء وفي الدنيا والآخرة لو أنهم اختاروا الطريق ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم؛ ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون إن هاتين الآيتين تقرران أصلا كبيرا من أصول التصور الإسلامي ومن ثم فهما تمثلان حقيقة ضخمة في الحياة الإنسانية ولعل الحاجة إلى جلاء ذلك الأصل وإلى بيان هذه الحقيقة لم تكن ماسة كما هي اليوم؛ والعقل البشري والموازين البشرية والأوضاع البشرية تتأرجح وتضطرب وتتوه بين ضباب التصورات وضلال المناهج بإزاء هذا الأمر الخطير إن الله سبحانه يقول لأهل الكتاب ويصدق القول وينطبق على كل أهل كتاب إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لكفر عنهم سيئاتهم ولأدخلهم جنات النعيم وهذا جزاء الآخرة وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج الله الممثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم كما أنزلها الله بدون تحريف ولا تبديل لصلحت حياتهم الدنيا ونمت وفاضت عليهم الأزراق ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق ووفرة النتاج وحسن التوزيع وصلاح أمر الحياة ولكنهم لا يؤمنون ولا يتقون ولا يقيمون منهج الله إلا قلة منهم في تاريخهم الطويل مقتصدة غير مسرفة على نفسها وكثير منهم ساء ما يعملون وهكذا يبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده وإن كان هو المقدم وهو الأدوم ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة وفرة ونماء وحسن توزيع وكفاية يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وهكذا يتبين أن ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة؛ وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا وهذا المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب ولكنه كذلك وتبعا لذلك منهج حياة أنسانية واقعية يقام وتقام عليه الحياة وإقامته مع الإيمان والتقوى هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية وفيض الرزق ووفرة النتاج وحسن التوزيع حتى يأكل الناس جمعيا في ظل هذا المنهج من فوقهم ومن تحت أرجلهم إن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلا من الدنيا؛ ولا يجعل سعادة الآخرة بديلا من سعادة الدنيا ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا وهذه هي الحقيقة الغائمة اليوم في أفكار الناس وعقولهم وضمائرهم وأوضاعهم الواقعية لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير الناس وضميرهم وواقعهم بحيث أصبح الفرد العادي وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة لا يرى أن هنالك سبيلا للالتقاء بين الطريقين ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه؛ وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه؛ ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا حقيقة إن أوضاع الحياة الجاهلية الضالة البعيدة عن الله وعن منهجه للحياة اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة؛ وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية؛ والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف الذي يحض عليه الدين كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع والكسب في مضمار المنافع لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق ولا مرضية لله سبحانه ولكن تراها ضربة لازب ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة كلا إنها ليست ضربة لازب فالعداء بين الدنيا والآخرة؛ والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلا إنما هي عارض ناشى ء من انحراف طارى ء إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة؛ وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا؛ وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة والخلافة عمل وإنتاج ووفرة ونماء وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم كما يقول الله في كتابه الكريم إن التصور الإسلامي يجعل وظيفة الإنسان في الأرض هي الخلافة عن الله بإذن الله وفق شرط الله ومن ثم يجعل العمل المنتج المثمر وتوفير الرخاء باستخدام كل مقدرات الأرض وخاماتها ومواردها بل الخامات والموارد الكونية كذلك هو الوفاء بوظيفة الخلافة ويعتبر قيام الإنسان بهذه الوظيفة وفق منهج الله وشريعته حسب شرط الاستخلاف طاعة لله ينال عليها العبد ثواب الآخرة؛ بينما هو بقيامه بهذه الوظيفة على هذا النحو يظفر بخيرات الأرض التي سخرها الله له؛ ويفيض عليه الرزق من فوقه ومن تحت رجليه كما يصور التعبير القرآني الجميل ووفق التصور الإسلامي يعتبر الإنسان الذي لا يفجر ينابيع الأرض ولا يستغل طاقات الكون المسخرة له عاصيا لله ناكلا عن القيام بالوظيفة التي خلقه الله لها وهو يقول للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة وهو يقول كذلك للناس وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ومعطلا لرزق الله الموهوب للعباد وهكذا يخسر الآخرة لأنه خسر الدنيا والمنهج الإسلامي بهذا يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق فلا يفوت على الإنسان دنياه لينال آخرته ولا يفوت عليه آخرته لينال دنياه فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي هذا بالقياس إلى جنس الإنسان عامة وبالقياس إلى الجماعات الإنسانية التي تقوم في الأرض على منهج الله فأما بالقياس إلى الأفراد فإن الأمر لا يختلف إذ أن طريق الفرد وطريق الجماعة في المنهج الإسلامي لا يختلفان ولا يتصادمان ولا يتعارضان فالمنهج يحتم على الفرد أن يبذل أقصى طاقته الجسمية والعقلية في العمل والإنتاج؛ وأن يبتغي في العمل والإنتاج وجه الله فلا يظلم ولا يغدر ولا يغش ولا يخون ولا يأكل من سحت ولا يحتجز دون أخيه المحتاج في الجماعة شيئا يملكه مع الاعتراف الكامل له بملكيته الفردية لثمرة عمله والاعتراف للجماعة بحقها في ماله في حدود ما فرض الله وما شرع والمنهج يسجل للفرد عمله في هذه الحدود ووفق هذه الاعتبارات عبادة لله يجزيه عليها بالبركة في الدنيا وبالجنة في الآخرة ويربط المنهج بين الفرد وربه رباطا أقوى بالشعائر التعبدية التي يفرضها عليه؛ ليستوثق بهذا الرباط من تجدد صلته بالله في اليوم الواحد خمس مرات بالصلاة وفي العام الواحد ثلاثين يوما بصوم رمضان وفي العمر كله بحج بيت الله وفي كل موسم أو في كل عام بإخراج الزكاة ومن هنا قيمة هذه الفرائض التعبدية في المنهج الإسلامي إنها تجديد للعهد مع الله على الارتباط بمنهجه الكلي للحياة وهي قربى لله يتجدد معها العزم على النهوض بتكاليف هذا المنهج الذي ينظم أمر الحياة كلها ويتولى شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم بين الناس في علاقاتهم وفي خلافاتهم ويتجدد معها الشعور بعون الله ومدده على حمل التكاليف التي يتطلبها النهوض بهذا المنهج الكلي المتكامل والتغلب على شهوات الناس وعنادهم وانحرافهم وأهوائهم حين تقف في الطريق وليست هذه الشعائر التعبدية أمورا منفصلة عن شئون العمل والإنتاج والتوزيع والحكم والقضاء والجهاد لإقرار منهج الله في الأرض وتقرير سلطانه في حياة الناس إنما الإيمان والتقوى والشعائر التعبدية شطر المنهج المعين على أداء شطره الآخر وهكذا يكون الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله في الحياة العملية سبيلا للوفرة والفيض كما بعد الله الناس في هاتين الآيتين الكريمتين إن التصور الإسلامي وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه لا يقدم الحياة الآخرة بديلا من الحياة الدنيا ولا العكس إنما يقدمهما معا في طريق واحد وبجهد واحد ولكنهما لا يجتمعان كذلك في حياة الإنسان إلا إذا اتبع منهج الله وحده في الحياة دون أن يدخل عليه تعديلات مأخوذة من أوضاع أخرى لم تنبثق من منهج الله أو مأخوذة من تصوراته الذاتية التي لم تضبط بهذا المنهج ففي هذا المنهج وحده يتم ذلك التناسق الكامل والتصور الإسلامي وكذلك المنهج الإسلامي المنبثق منه لا يقدم الإيمان والعبادة والصلاح والتقوى بديلا من العمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة المادية وليس هو المنهج الذي يعد الناس فردوس الآخرة ويرسم لهم طريقه؛ بينما يدع الناس أن يرسموا لأنفسهم الطريق المؤدي إلى فردوس الدنيا كما يتصور بعض السطحيين في هذا الزمان فالعمل والإنتاج والتنمية والتحسين في واقع الحياة الدنيا تمثل في التصور الإسلامي والمنهج الإسلامي فريضة الخلافة في الأرض والإيمان والعبادة والصلاح والتقوى تمثل الارتباطات والضوابط والدوافع والحوافز لتحقيق المنهج في حياة الناس وهذه وتلك معا هي مؤهلات الفردوس الأرضي والفردوس الأخروي معا؛ والطريق هو الطريق ولا فصام بين الدين والحياة الواقعية المادية كما هو واقع في الأوضاع الجاهلية القائمة في الأرض كلها اليوم والتي منها يقوم في أوهام الواهمين أنه لا مفر من أن يختار الناس الدنيا أو يختاروا الآخرة ولا يجمعوا بينهما في تصور أو في واقع لأنهما لا تجتمعان إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة وبين العبادة الروحية والإبداع المادي وبين النجاح في الحياة الدنيا والنجاح في الحياة الأخرى إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية إنما هو ضريبة بائسه فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى إنهم يؤدونها قلقا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه إذا هم آثروا اطراح الدين كله على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب ولا تطيق الفراغ والخواء وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية أو فلسفية أو فنية على الإطلاق لأنها جوعة النزعة إلى إله وهم يؤدونها كذلك قلقا وحيدة وشقاء قلب وبلبلة خاطر إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعة وتقوم تصوراته وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني والسلوك الديني مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نظام الحياة العملية وتتصور أو يصور لها أعداء البشرية أن الدين لله وأن الحياة للناس وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع؛ ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة بل ينسق ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة في فترة موقوتة إذ نرى أمما لا تؤمن ولا تتقي ولا تقيم منهج الله في حياتها وهي موفورة الخيرات كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم مما يجعل المجتمع حافلا بالشقاء وحافلا بالأحقاد وحافلا بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة وهو بلاء على رغم الرخاء وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعا من عدالة التوزيع واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره إن عاجلا أو آجلا إلى تدمير الحياة المادية ذاتها فالعمل والإنتاج والتوزيع كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم وبخاصة أشدها رخاء ماديا مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحا كافيا يلفت الأنظار وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة؛ في هذا العالم المضطرب؛ الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون؛ فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء وتظهر هذه الآثار كلها بصورة متقدمة واضحة في ميل بعض الشعوب إلى الاندثار والدمار وأظهر الأمثلة الحاضرة تتجلى في الشعب الفرنسي وليس هذا إلا مثلا للآخرين في فعل الافتراق بين النشاط المادي والمنهج الرباني؛ وافتراق الدنيا والآخرة وافتراق الدين والحياة؛ أو اتخاذ منهج للآخرة من عند الله واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس؛ وإيقاع هذا الفصام النكد بين منهج الله وحياة الناس وقبل أن ننهي هذا التعليق على التقرير القرآني لتلك الحقيقة الكبيرة نحب أن نؤكد أهمية التناسق في منهج الله بين الإيمان والتقوى وإقامة المنهج في الحياة الواقعية للناس وبين العمل والإنتاج والنهوض بالخلافة في الأرض فهذا التناسق هو الذي يحقق شرط الله لأهل الكتاب ولكل جماعة من الناس أن يأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا وأن تكفر عنهم سيئاتهم ويدخلوا جنات النعيم في الآخرة؛ وأن يجتمع لهم الفردوس الأرضي بالوفرة والكفاية مع السلام والطمأنينة وفردوس الآخرة بما فيه من نعيم ورضوان ولكننا مع هذا التوكيد لا نحب أن ننسى أن القاعدة الأولى والركيزة الأساسية هي الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الرباني في الحياة الواقعية فهذا يتضمن في ثناياه العمل والإنتاج والترقية والتطوير للحياة فضلا على أن للصلة بالله مذاقها الذي يغير كل طعوم الحياة؛ ويرفع كل قيم الحياة؛ ويقوم كل موازين الحياة فهذا هو الأصل في التصور الإسلامي وفي المنهج الإسلامي وكل شيء فيه يجيء تبعا له ومنبثقا منه ومعتمدا عليه ثم يتم تمام الأمر كله في الدنيا والآخرة في تناسق واتساق وينبغي أن نذكر أن الإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله وإقامة شريعة الله في الحياة كل أولئك ثمرته للإنسان وللحياة الإنسانية فالله سبحانه غني عن العالمين وإذا شدد المنهج الإسلامي في هذه الأسس وجعلها مناط العمل والنشاط؛ ورد كل عمل وكل نشاط لا يقوم عليها وعده باطلا لا يقبل وحابطا لا يعيش وذاهبا مع الريح فليس هذا لأن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له وتحقيق منهجه للحياة ولكن لأنه سبحانه يعلم أن لا صلاح لهم ولا فلاح إلا بهذا المنهاج في الحديث القدسي عن أبى ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن ربه تبارك وتعالى أنه قال «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله؛ ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه». رواه مسلم وعلى هذا الأساس ينبغي أن ندرك وظيفة الإيمان والتقوى والعبادة وإقامة منهج الله في الحياة والحكم بشريعة الله فهي كلها لحسابنا نحن لحساب هذه البشرية في الدنيا والآخرة جميعا وهي كلها ضروريات لصلاح هذه البشرية في الدنيا والآخرة جميعا ونحسب أننا لسنا في حاجة لأن نقول إن هذا الشرط الإلهي لأهل الكتاب غير خاص بأهل الكتاب فالشرط لأهل الكتاب يتضمن الإيمان والتقوى وإقامة منهج الله المتمثل في ما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم وذلك بطبيعة الحال قبل البعثة الأخيرة فأولى بالشرط الذين أنزل إليهم القرآن أولى بالشرط الذين يقولون إنهم مسلمون فهؤلاء هم الذين يتضمن دينهم بالنص الإيمان بما أنزل إليهم وما أنزل من قبل والعمل بكل ما أنزل إليهم وما استبقاه الله في شرعهم من شرع من قبلهم وهم أصحاب الدين الذي لا يقبل الله غيره من أحد وقد انتهى إليه كل دين قبله؛ ولم يعد هناك دين يقبله الله غيره أو يقبل من أحد غيره فهؤلاء أولى أن يكون شرط الله وعهده لهم وهؤلاء أولى أن يرتضوا ما ارتضاه الله منهم وأن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم من تكفير السيئات ودخول الجنة في الآخرة؛ ومن الأكل من فوقهم ومن تحت أرجلهم في الدنيا إنهم أولى أن يستمتعوا بما يشرطه الله لهم بدلا من الجوع والمرض والخوف والشظف الذي يعيشون فيه في كل أرجاء الوطن الإسلامي أو الذي كان إسلاميا بتعبير أصح وشرط الله قائم؛ والطريق إليه معروف لو كانوا يعقلون الوحدة السادسة الموضوع بيان كفر وانحراف وإفساد أهل الكتاب مقدمة الوحدة تقرير نوع العلاقة بين الجماعة المسلمة وأهل الكتاب يمضي هذا الدرس في بيان حال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكشف الانحراف فيما يعتقدون وكشف السوء فيما يصنعون؛ في تاريخهم كله وبخاصة اليهود كما يمضي في تقرير نوع العلاقة بنيهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة؛ وواجب الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله معهم وواجب المسلمين ذلك إلى تقرير حقائق أساسية ضخمة في أصول التصور الاعتقادي؛ وفي أصول النشاط الحركي للجماعة المسلمة تجاه المعتقدات المنحرفة وتجاه المنحرفين لقد نادى الله سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم وكلفه تبليغ ما أنزل إليه من ربه كل ما أنزل إليه لا يستبقي منه شيئا ولا يؤخر منه شيئا مراعاة للظروف والملابسات أو تجنبا للاصطدام بأهواء الناس وواقع المجتمع وإن لم يفعل فما يكون قد بلغ ومن هذا الذي كلف الرسول صلى الله عليه وسلم تبليغه أن يجابه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم هكذا قاطعة جازمة صريحة جاهرة وأن يعلن كذلك كفر اليهود بنقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وكفر النصارى بقولهم إن الله هو المسيح عيسى بن مريم وقولهم إن الله ثالث ثلاثة كما يعلن أن المسيح عليه السلام أنذر بني إسرائيل عاقبة الشرك وتحريم الله الجنة على المشركين وأن بني إسرائيل لعنوا على لسان داود وعيسى بن مريم بعصيانهم وعدوانهم وينتهي الدرس بكشف موقف أهل الكتاب من مظاهرة المشركين على المسلمين وإعلان أن هذا ناشيء من عدم إيمانهم بالله والنبي وأنهم مدعوون إلى الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وإلا فما هم بالمؤمنين. اهـ.
|